شراكة الذكاء الاصطناعي بين أبوظبي وواشنطن أحد أهم قرارات ترامب
في وقتٍ يسوده التشاؤم أوساط المثقفين والخبراء بشأن مستقبل الديمقراطيات والاقتصادات الليبرالية، يقدّم الخبير الأمريكي البارز تايلر كوين رؤية مختلفة، تجمع بين الواقعية والتفاؤل.
كوين، أستاذ الاقتصاد بجامعة جورج ميسون، وأحد أبرز الأصوات في الفكر الليبرالي المعاصر، يطرح في حوار مع مجلة “لكسبريس” الفرنسية، تحليلات غير تقليدية حول صعود الشعبوية، والتحديات التي تواجه النظام الليبرالي، ودور الذكاء الاصطناعي، وحتى مستقبل فرنسا في هذا السياق العالمي المتقلّب.
عصر الانتصارات الكبرى انتهى
يبدأ كوين تحليله بالاعتراف بأن الليبرالية الكلاسيكية فقدت زخمها السياسي مقارنة بما كانت عليه بعد سقوط الشيوعية. فهي لم تعد قادرة على تحقيق “الانتصارات الكبرى”، كما حدث في العقود الأخيرة من القرن العشرين. لكنه يصرّ على أن المشروع الليبرالي لم يكن يومًا مرهونًا بالسلطة السياسية المباشرة، بل بقوة الأفكار وقدرتها على إحداث تحول طويل المدى في المجتمعات.
ويضيف: “الليبراليون لا يسعون لحكم الدول كما يفعل الجمهوريون أو الديمقراطيون، بل يسعون لكسب المعارك الفكرية والاجتماعية”. ومن هذا المنطلق، يرى كوين أن المجال لا يزال مفتوحًا أمام الليبرالية لاستعادة مكانتها، خاصة في ظل ما يصفه بـ”عودة الوعي بقيمة الحريات” لدى الشعوب بعد سلسلة من الصدمات الكبرى.
هل بلغت الشعبوية ذروتها في الغرب؟
رغم القلق المتزايد من تنامي اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا، لا يشاطر كوين هذا التشاؤم. بل يطرح فرضية معاكسة: هل يكون صعود الأحزاب الشعبوية وصل إلى ذروته بالفعل؟، مشيرا إلى أن بعض الحكومات بدأت تتعامل بجدية مع ملف الهجرة، ما قد يسحب البساط من تحت أقدام التيارات اليمينية المتطرفة.
ويضرب مثالًا بما يقوم به زعيم حزب العمال البريطاني، كير ستارمر، من محاولات جادة لضبط ملف الهجرة، معتبرًا أن هذه الخطوات قد تؤدي إلى تقليص الفجوة التي تستغلها الأحزاب الشعبوية لتعزيز نفوذها. ومن هنا، يرى كوين أن عودة الليبرالية إلى مركز الساحة السياسية ممكنة، شرط تحرك النخب التقليدية نحو معالجة القضايا الجوهرية التي تغذي الغضب الشعبي.
ترامب.. راديكالي الشكل براجماتي الجوهر
عند الحديث عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لا يخفي كوين قلقه من بعض السياسات والخطابات، لكنه يقدّم رؤية مغايرة لما هو سائد في الإعلام والمجال الأكاديمي. إذ يعتبر أن ترامب، رغم نزعته الشعبوية، أثبت مرونة كبيرة في التفاوض والتراجع عند الحاجة، خصوصًا فيما يتعلق بالميزانية والرسوم الجمركية.
ويذهب إلى حد القول إن “ترامب ربما يكون من أكثر الرؤساء الأمريكيين قبولًا بالتسويات”، وهو ما يفسّره بامتلاكه قاعدة جماهيرية تتسامح مع التناقضات والتغييرات الحادة، بل وتراه أكثر قوة عندما يغيّر رأيه.
ويضيف كوين أن هذه المرونة، وإن بدت مربكة، تمنح ترامب قدرة عالية على المناورة السياسية، وهو ما قد يُنتج نتائج أقل سوءًا مما يُتوقع من خطاباته النارية.
تفاؤل بعد شهر كارثي
وحول تقييمه لسياسة ترامب الاقتصادية، بعدما فقدت أمريكا تصنيفها “A3” من وكالة موديز، يؤكد الخبير الاقتصادي أن هذا التصنيف لا يعني الكثير. أسعار الفائدة لا تزال طبيعية، ورغم شهر كارثي من القرارات السيئة لترامب، فقد تراجع عنها.
وتابع “حاليا الأسواق جيدة، الدولار ينتعش قليلاً. ليس سيناريو كارثيًا. الكونغرس أصبح أكثر فاعلية. الأمور ليست مثالية، لكن هناك مؤسسات تلعب دورها. أنا أكثر تفاؤلًا مما كنت عليه قبل شهر”.
وبالنسبة للصين التي يخشى كثيرون أن يكون تراجع أمريكا يصب في صالحها، فيشير إلى أن بكين ليست في طفرة اقتصادية، بل في ركود. ديموجرافيتها سلبية، وتعاني من انكماش. لا أقول إنها سيئة، ربما ستصبح دولة غنية لكنها لن تتجاوز أمريكا أو الاتحاد الأوروبي.
تهديد وجودي أم فرصة حضارية؟
في خضم الجدل العالمي حول الذكاء الاصطناعي، يتخذ كوين موقفًا متوازنًا. لا يراه خطرًا وجوديًا مباشرًا، لكنه يقرّ بعمق التغييرات التي يمكن أن يُحدثها في سوق العمل والمجتمع. ومع ذلك، يعتقد أن الأنظمة الليبرالية الغربية أكثر قدرة على التكيف مع هذه التحولات، نظرًا لما تملكه من مرونة مؤسساتية وثقافة ريادية.
ويلمح إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يكون فرصة لتجديد المشروع الليبرالي عبر إعادة التفكير في دور الدولة، وآليات السوق، وأهمية التعليم، وخلق شبكات أمان اجتماعي فعالة.
دول الخليج والذكاء الاصطناعي
بالنسبة لإعلان ترامب عن شراكات في مجال الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك بناء مركز بيانات كبير للذكاء الاصطناعي في أبو ظبي، أكد الخبير الاقتصادي أنه أحد أهم القرارات التي اتخذها الرئيس الأمريكي خلال فترة ولايته.
وأضاف لتشغيل الذكاء الاصطناعي القوي، تحتاج إلى قدر كبير من الطاقة، ومن الأفضل استخدام الطاقة النووية لتقليل التأثير البيئي. والآن أصبحت الولايات المتحدة سيئة للغاية في بناء محطات الطاقة الجديدة.
ولذلك اتجه ترامب إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين تستطيعان إيجاد الطاقة اللازمة بسرعة. وهذا من شأنه أن يزيد من تسريع تقدمنا على الصين، لأنه إذا لم نقم بتطوير الذكاء الاصطناعي الخاص بنا، الصين ستقوم بذلك، وحينها ستكون المخاطر أعظم بكثير.
مفاجأة إيجابية في قلب أوروبا
أكثر ما يفاجئ في تحليل كوين هو نظرته المتفائلة تجاه فرنسا. في وقتٍ يكثر فيه النقد للوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد، يذهب كوين عكس التيار ويقول: “فرنسا تفيض بالمواهب. لقد زرت أكثر من 100 دولة، وفرنسا من بين أكثرها ديناميكية من حيث الإنتاج الفكري والفني”.
ويرى أن فرنسا رغم مشاكلها، كالمالية العامة، وشيخوخة السكان، والتحديات التي يفرضها اندماج المسلمين، تظل قوة فكرية وعلمية وإبداعية، ولا تزال تساهم بقوة في الحوار العالمي حول القيم، والاقتصاد، والتكنولوجيا. وينتقد بشدة ما يراه مبالغة في جلد الذات لدى الفرنسيين، معتبرًا أن التشاؤم الثقافي أصبح سمة وطنية غير مبرّرة.
ويؤكد أنه نفس الشيء بالنسبة لألمانيا، فأوروبا لديها قدرة مذهلة على تجميع نفسها في اللحظة الأخيرة، وأعتقد أن هذا ما سيحدث.
تفاؤل مدروس في زمن الاضطراب
لا يقدّم تايلر كوين صورة وردية عن العالم، لكنه يرفض الانجرار خلف الخطاب الكارثي السائد. بين تحولات التكنولوجيا، وتحديات الشعبوية، واستمرار الأزمات العالمية، يرى كوين أن الليبرالية الكلاسيكية لم تمت، بل تعيش لحظة مراجعة عميقة يمكن أن تُعيدها إلى الصدارة.
ويقول: لست متفائلًا بشكل أعمى. أنا مدرك للصعوبات، وأعرف أن المستقبل سيكون معقدًا. لكنني أرفض الانخراط في هذا التشاؤم الكلي. العالم لا يسير نحو الجحيم. هناك تقدم مذهل في مجالات عديدة: الطب، التكنولوجيا، التعليم، حقوق الإنسان. وأرى أن الليبرالية، رغم كل ما يُقال، لا تزال الإطار الأفضل لتحقيق حياة كريمة وآمنة للناس. فقط، علينا أن نُجدّدها، وأن نُكيّفها مع التحديات الجديدة، والبحث عن حلول بدلًا من أن نبقى رهينة للمخاوف.
aXA6IDE4NS4yNDQuMzYuMTM3IA==
جزيرة ام اند امز