أمريكا والصين في جنيف.. محادثات تجارية «منخفضة التوقعات»
علق محللون على محادثات جنيف اليوم بين أمريكا والصين بالقول إن العالم يجب أن يستعد لدورة جديدة من التصعيد والتوترات التجارية.
التقى مسؤولون من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وممثلون عن الرئيس الصيني شي جين بينغ في جنيف لمناقشة الرسوم الجمركية والتجارة. وبينما أضفي الاجتماع في ظل منظمة التجارة العالمية – التي ساهمت كل من واشنطن وبكين في تقويضها – طابعًا رمزيًا مليئًا بالمفارقة، فإن الأهمية الحقيقية تكمن في الرهانات الكبيرة المرتبطة بهذه المحادثات.
ووفقاً لتقرير لمجلة “فورين بوليسي” بلغ حجم التجارة في السلع والخدمات بين الولايات المتحدة والصين 660 مليار دولار في عام 2024، بالإضافة إلى نحو 600 مليار دولار من الأعمال التي تقوم بها الشركات الأمريكية في الصين ونظيراتها الصينية في الولايات المتحدة من خلال فروعها الخارجية. كما توجد 286 شركة صينية مدرجة في البورصات الأمريكية الكبرى بقيمة سوقية إجمالية تبلغ 1.1 تريليون دولار. وهذا الترابط الاقتصادي العميق يدعم ملايين الوظائف، ويغذي الابتكار، ويساهم في الحفاظ على الأسعار في متناول المستهلكين.
وإذا فشلت المحادثات، فإن مزيداً من الرسوم الجمركية، والقيود التكنولوجية، وتصاعد العداء قد يدفع الاقتصادين والمجتمعين الأمريكي والصيني إلى الانفصال الكامل، ما سيؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة، وزيادة الأسعار، واضطراب سلاسل التوريد، وتباطؤ النمو في كلا البلدين. وقد حذّر صندوق النقد الدولي من أن هذا الانفصال سيؤدي إلى إضعاف الاقتصاد العالمي أيضًا.
أما رؤية ترامب التي تسعى لجعل الولايات المتحدة مكتفية ذاتيًا عبر عودة وظائف التصنيع على نطاق واسع هي رؤية غير واقعية. ومن دون الاعتماد المتبادل بين واشنطن وبكين، ستزداد احتمالات اندلاع نزاع في مضيق تايوان. كما أن الطلاق الاقتصادي الكامل سيؤدي إلى عزلة كل من القوتين؛ فقد تفقد الصين موقعها كمركز تصنيع وابتكار عالمي، بينما ستفقد الولايات المتحدة دورها كمصدر رئيسي للأفكار ورأس المال والأسواق. وسينشأ عالم متعدد الأقطاب، أقل استقرارًا، وأكثر عرضة للصراعات، وأقل قدرة على معالجة التحديات الكبرى مثل تغيّر المناخ، والأوبئة، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
توقعات منخفضة
ورغم كل ذلك، فإن التوقعات بشأن محادثات جنيف لا تزال منخفضة، وهو أمر مبرر. فقد مضى أكثر من خمس سنوات على توقيع اتفاق “المرحلة الأولى” الشهير في يناير/كانون الثاني 2020، والذي تعهدت فيه الصين بتحسين حماية الملكية الفكرية وزيادة وارداتها من السلع الأمريكية، وهو ما فشلت -حسب واشنطن- في تنفيذه. أما إدارة الرئيس السابق جو بايدن، فكانت متشككة للغاية في إمكانية التوصل إلى اتفاق ذي مغزى، لدرجة أنها لم تحاول حتى إعادة التفاوض.
وإحدى العقبات الكبرى هي أن أياً من الطرفين لا يشعر بالحاجة الملحة للتوصل إلى اتفاق حاليًا. فعلى الرغم من تقلب الأسواق المالية الأمريكية واحتدام الغضب الشعبي، لا يزال أمام واشنطن أدوات مثل خفض الضرائب لتحفيز الاقتصاد. ومن جهتها، تعاني الشركات الصينية المصدّرة من تراجع خفي، لكن التقدم التكنولوجي للصين وتوسعها في الأسواق العالمية قلّلا من اعتمادها على أمريكا. كما تمتلك بكين مساحة كافية لتحفيز اقتصادها من خلال أدوات مالية ونقدية، وتستطيع السيطرة على أي أزمة عبر نظامها المالي المركزي.
دبلوماسيًا، لا تعاني أي من الدولتين من عزلة دولية. فإدارة ترامب أبرمت مؤخرًا اتفاقًا إطاريًا مع بريطانيا وتفاوض مع عدد من الدول الأخرى لتوسيع الأسواق الأمريكية وتضييق الخناق على الصين. من ناحيتها، تواصل بكين تعزيز علاقاتها مع دول جنوب شرق آسيا وأوروبا الغربية وروسيا.
الظهور فقط
حتى الآن، يبدو أن كلا الطرفين مهتم بالظهور بمظهر المنفتح على الحوار أكثر من اهتمامه بتحقيق نتائج حقيقية، وذلك للحفاظ على الثقة في الأسواق والدعم السياسي الداخلي. ولكن من غير المرجح أن يتم التوصل إلى اتفاق حقيقي، خاصة في ظل عدم وضوح أهداف واشنطن. فالرئيس ترامب ومستشاروه يرسلون رسائل متضاربة؛ فتارة يركزون على تقليص العجز التجاري، وتارة يطالبون بتقليص الدعم الحكومي الصيني، وأحيانًا يدفعون نحو الانفصال التام. وكل من هذه الأهداف يتطلب مسارًا تفاوضيًا مختلفًا، أو حتى يُلغي الحاجة للتفاوض من الأساس.
حتى لو حُددت الأهداف بوضوح، فلا يوجد ما يشير إلى استعداد واشنطن لتقديم تنازلات حقيقية، سوى ربما تخفيف بعض الرسوم الجمركية، في حين تفكر في فرض رسوم جديدة على سلع استراتيجية كالمعادن والدواء والسيارات، وهو ما يلغي أي تنازل فعلي.
أما الصين، فهي ليست مستعدة لتقديم تنازلات كبيرة مقابل وعود جزئية، خاصة في ظل انعدام الثقة في استقرار السياسات الأمريكية. وما تريده الصين فعلاً هو “التوقع” و”الاستقرار”، لكنها تدرك أن ترامب قد يكون غير قادر – أو غير راغب – في تقديم ذلك، نظرًا لاعتماده على سياسة عدم اليقين كسلاح تفاوضي.
وفي أفضل السيناريوهات، قد يتفق الطرفان على وقف مؤقت للتصعيد أو تخفيف محدود لبعض الحواجز. لكن من المرجح أن يكون هذا التقدم مؤقتًا. فالتاريخ يكرر نفسه، وقد تستمر المواجهة سنوات كما حدث مع اتفاق “المرحلة الأولى” الذي استغرق 22 شهرًا للتوصل إليه.
aXA6IDE4NS4yNDQuMzYuMTM3IA==
جزيرة ام اند امز